مسائل متفرقة في مرحلة عيسى عليه السلام
أولاً عيسى يحج ويعتمر :
/- عن أبي هُرَيْرَةَ أن النَّبِيِّ قَالَ : } وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا { ([1])
شرح الغريب :
فج الروحاء : مكان بين مكة والمدينة ، وكان طريق النبي r إلى بدر ومكة عام الفتح وحجة الوداع .
ليثنينهما : أي يجمع بين الحج والعمرة ، وهو القران .
شرح :
1- الحديث فيه إشارة صريحة أن عيسى r إنما ينزل مقرراً لشريعة محمد r ، لا ناسخاً لها ، وكذلك الحديث فيه إشارة إلى أن عيسى r لا يبقى في الشام ، بل يقصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم ، ومنها يتوجه إلى مكة .
2- دلائل سياق قصة عيسى r تشير إلى أن هذا الحج يكون بعد القضاء على يأجوج ومأجوج ، وقد ثبت في الصحيح أن البيت يحج إليه ويعتمر بعد يأجوج ومأجوج .
3- جاء في رواية ابن خزيمة أن عيسى r يمكث في فج الروحاء ومنه يحج ، وسبب هذا المكث غير مصرح به ، وطبعاً لا يتصور من سيدنا عيسى r أن يقصد فج الروحاء دون أن يمر بالمدينة المنورة التي تكون في طريقه ، بل ورد في آثار أنه يسافر إلى روضة سيد الأنبياء ويرد على سلامه يد المرسلين .
ثانياً زواج عيسى و مكان دفنه .
1- جاء في بعض الآثار أن عيسى r يتزوج من جذام ، وجاء التصريح في الأثر بأن جذام هم قوم شعيب عليه السلام .
2- أما مكان دفن عيسى r فقد اختلفت الآثار في ذلك ، والراجح فيها أنه يدفن في الروضة النبوية بجوار النبي r وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
ثالثاً : قدر بقاء عيسى في الأرض .
/ - عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r } يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ . { ([2])
/ - عن أَبي هُرَيْرَةَ عن رَسُولُ اللَّهِ وفيه : }.. فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. { وفي رواية أحمد } ثُمَّ يَمْكُثَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِمَامًا عَدْلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا . { ([3])
شرح :
يلحظ من مجموع الأحاديث السابقة أن هناك تعارضاً بينها في تحديد مدة بقاء عيسى r على الأرض بعد نزوله ، ففي رواية مسلم إشارة إلى أن المدة سبع سنين ، وفي رواية أبي داود وأحمد التصريح بمكثه أربعين سنة ، وهذا الإشكال بين المدتين أجاب عنه العماد ابن كثير بقوله : » فهذا مع هذا مشكل ، اللهم إلا أن تحمل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله ، ويكون ذلك مضافاً إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء ، وكان عمره إذ ذاك ثلاثاً وثلاثين سنة على المشهور . « ([4])
وهذا جمع حسن ؛ إلا أنني أرى أنه ليس المراد هنا بالحديثين ، وذلك للأسباب التالية :
1- من تأمل الحديثين يجد أنه لا تعارض ، فغاية ما في رواية مسلم أنها أشارت إلى أنه يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ، ودلالتها الصريحة تقتصر على بيان حال الناس في مدة معينة، وهذا الكلام ليس فيه تصريح بأن هذه السبع سنوات هي كل المدة التي يقضيها عيسى r بعد نزوله ، وإنما فهم ذلك من باب الإشارة ، وليس بصريح العبارة .
أما في رواية أبي داود فقد جاء فيها التصريح بأنه يمكث في الأرض أربعين سنة ، بل سياق الحديث يدل على أن هذه المدة كلها بعد نزوله ، و إلا فما الداعي لاستخدام حرف الفاء هنا الدال على أن هذا المكث مترتب على ما قبله وهو نزوله من السماء ، بل نلحظ في رواية أحمد أنها قالت ثم يمكث أرعين سنة إماماً عدلاً ، وهذا مما يشير صراحة إلى أن الأربعين سنة كلها تكون بعد نزوله حتماً .
إذا نحن أمام روايتان : إحداهما دلت بصريح العبارة على أن عيسى ، يمكث في الأرض أربعين سنة ، والأخرى دلت بالإشارة أو بدلالة الاقتضاء أن مكث عيسى ، هو سبع سنوات ، وإذا تعارض صريح العبارة مع دلالة الإشارة أو الاقتضاء ، رجحت دلالة العبارة عليهما ([5]) ؛ لذا يرجح هنا أن بقاء عيسى r بعد نزوله أربعون سنة .
/ - أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده الحديث السابق وفيه : } يَمْكُثُ عيسى فِي الْأَرْضِ بعدما ينزل أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يموت، و يُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . { ([6])
وهذا نص صريح بأن مدة الأربعين إنما تكون بعد نزوله ، وعليه يحمل المراد بالحديث السابق .
الجمع المعتبر عندي بين الأدلة :
من خلال ما سبق يمكن القول بأن قدر بقاء عيسى ، بعد نزوله هو أربعون سنة ، منها سبع سنوات ، وهي التي بعد هلاك يأجوج ومأجوج مباشرة يكون الأمن والصلاح بصورة لم تعهد حتى في عهد النبي محمد r،ولا يتصور وقوعها في عهد البشرية إلا في عهد نوح بعد الطوفان (_ )
وهذه اللحظات التي يسعد بها أهل الأرض ، وكأنهم في الجنة لا تدوم إلا سبع سنوات ، ثم بعد ذلك يكون النقص التدريجي في حال البشرية ، وتبدأ علاماته بتوقد العداوة من جديد بين الأفراد ، وهذا طبعاً لا يعني عدم صلاح الحال العام للأمة ، ولكن هو بداية النقص ، ولا يتنافى وقوع ذلك في عهد عيسى ، فطبيعة الأرض التي خُلقنا عليها ولوازم الابتلاء تقتضي مثل هذا الواقع ، و وفقاً لذلك لا يمتنع أن يتغير هذا الحال ، أو يبدأ في التغير التدريجي في عهد عيسى ، وقبل وفاته .
([1]) أخرجه مسلم برقم 1252 [ مسلم بشرح النووي ( 4/468) ]
([2]) أخرجه مسلم [ مسلم بشرح النووي ( 18/75)
([3]) أخرجه أبو داود برقم 4326 ( 4/201) ؛ وأحمد برقم 9292 [ المسند ( 2/536 ) ] والحديث أصله في البخاري ومسلم ، وقال عنه آبادي : » رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح [ عون المعبود ( 11/456) ]
([4]) ابن كثير : النهاية في الفتن والملاحم ( 118)
([5]) انظر الزحيلي : أصول الفقه الإسلامي وأدلته ( 1/ 349 وما بعدها )
([6]) هذه الرواية ذكرها صاحب كتاب عون المعبود ، وقال بعدها ، وهذا حديث إسناده قوي [ عون المعبود ( 11/454) ]
سبحان الله : هناك تشابه بين العهدين :ففي زمان نوح وقع الطوفان ، ثم عادت للأرض بركتها بعد هلاك كل أهل الباطل ، و بعد هلاك يأجوج ومأجوج ينزل مطر أشبه بالطوفان يأخذ كل نتن وجيف يأجوج ومأجوج ويلقيها في البحر ، وتعود الأرض إلى بركتها بعد طهارتها من نتن أهل الباطل .
منقول