قلنا ها نبني وادي احنا بنينا السد العازل !...

قلنا ها نبني وادي احنا بنينا السد العازل !...

يستيقظ من النوم مرهق ومشتت الذهن كالعادة .. ينهض في تثاقل نحو الحمام .. يضع رأسه تحت الماء علها تزيل بعض همومه وهي تنساب فوق رأسه مزيلة اثر النوم .. تنقطع الماء قبل ان يكمل غسل رأسه .. يدور حول نفسه وهو مغمض العينين والصابون يحرق عينيه محاولا العثور علي دلو الماء الأحتياطي .. يتعثر ويسقط علي الارض ورأسه مباشرة داخل الدلو ..

يصرخ في مقت واضح للحياة :
- " سحقا لشركة المياه التي لا تعرف سوي رفع الاسعار "

يتحامل علي نفسه وينهض من سقطته .. علي الاقل اكمل غسيل رأسه لكن بطريقة عنيفة نوعا !..

يرتدي ملابسه ويغادر المنزل دون افطار فليس لديه اي شهية للطعام ..

يخرج من باب المنزل البسيط في تلك الحارة الصغيرة بمنطقة شعبية شديدة الفقر .. يجد الشارع كله غارقا في مياه المجاري وقد وضع بعضهم حجارة علي مسافات متساوية تبدو كجزر صغيرة وسط بركة الماء الاسن ..

يغمغم في سخط :
- " يبدو انه يوم نحس من بدايته .. هذا ما كان ينقصني .. فقرة اكروبات صباحية !.."

يقفز علي هذا الجسر المرتجل محاولا الحفاظ علي توازنه قدر الامكان حتي لا يسقط وسط بركة مياه المجاري من حوله .. واخير ينجح في الوصول الي الجانب الاخر ..

يصل الي محطة الاتوبيس وينتظر .. يصل الاتوبيس محمل بملايين من البشر المحشورين في كل فراغ منه .. لا يكاد يتوقف حتي يكمل مسيرته والناس تهرول من خلفه .. يجري وسط الناس محاولا ان يسبقهم ليفوز بالجزء الوحيد الخالي علي اخر درجة من سلم الاتوبيس .. ينجح في الوصول الي الاتوبيس قبل ان يزيد من سرعته منطلقا .. يتعلق به ونصف جسده يتدلي خارجه .. تذكر ذلك المشهد في الفيلم الاجنبي الذي شاهده علي المقهي يوما ما عندما كان الضابط يجري وراء المجرم واستطاع المجرم ان يقفز في الاتوبيس قبيل تحركة بلحظات والنتيجة ان الضابط لم يستطيع فعل ما فعله المجرم وفر منه وعندها اقترب زميليه منه قائلا في سخرية "يبدو انك تحتاج للمزيد من تمارين اللياقة " .. ابتسم في سخرية مريرة لهذا الخاطر .. فما يعد مطاردة مثيرة في افلام الغرب هو جزء طبيعي من حياته في هذا الشقاء المدقع الذي يحيا فيه ..

اخيرا يجد فرجة بين الاجساد يدس نفسه فيها وينسل داخل الاتوبيس .. يجد لنفسه مكان ضيق بين الاجساد بجوار احد الكراسي ليقف فيه محشورا .. يتعالي صوت عبد الحليم حافظ من مكان ما يغني :

- "انتصرنا يوم ما هب الجيش وثار.. يوم ما اشعلناها ثورة نور ونار .. يوم ما حققنا الجلاء " ..

الرجل علي الكرسي المقابل له يقراء الجريدة .. يختلس نظرة الي العناوين ..

"الملكية تعود بشكل جديد " ..

" سيناريو توريث الحكم المحتمل " ..

" الفساد يضرب الجهاز الـ..."

لم يستطيع اكمال العنوان الاخير حيث غير صاحب الجريدة الصفحة ، تمر المحطات وسط الزحام الخانق ورائحة العرق .. ينجح بمعجزة في النزول في المحطة التي يريدها بعد ان يتحرك الاتوبيس.. يهرول قليلا حتي تتناقص سرعته ..

اخيرا وصل لمكتبه في تلك الهيئة الحكومية .. المكتب العتيق وطلاء الجدران القذر وبلاط الارضية الذي لم يبدل من ايام الثورة .. يحي زملائه في المكتب في فتور .. ويبداء العمل المعتاد وسط كومة لا تنتهي من الملفات والتقارير .. يشغل احدهم راديو صغير يحمله فيسمع عبد الحليم يواصل الغناء :

- "قلنا نبني سد عالي .. بس الاستعمار صعب حالنا عليه .. ليه نرجع مجدنا ونعيده ليه .. " ..

يتداخل صوت الأغنية مع صوت نشرة الاخبار المتصاعد من علي مكتب اخر :

- "وهددت الادارة الامريكية بقطع كل المعونات التي تقدمها للحكومة المصرية اذا ما استمر الحال علي ما هو عليه وقد اعرب .. " ..

- " راح علي البنك اللي يساعد ويدي .. قاله حاسب .. قالنا ملكمش عندي .. قلنا ايه " ..

- " وصرح ان الحال لا يمكن ان يستمر علي ما هو عليه وان هناك مساعي واسعة النطاق لرأب الصدع بين السلطة .. " ..

- " كانت الصرخة القوية في الميدان في اسكندرية .. صرخة اطلقها جمال .. واحنا أممنا القنال .. ضربة كانت من معلم "..

- " تواصل القوات الأمريكية عملياتها العسكرية في بغداد في ما اسمته بعملية التطهير وذلك للسيطرة علي الارهاب الذي .. " ..

اشتعل الدم في رأسه من هذا التناقض .. اين كنا واين اصبحنا .. نظر حوله الي الوجوه الكالحة والعيون التي فقدت اي بريق للحياة .. نهض من علي مكتبه وانطلق خارجا .. هناك من يهتف به "الي اين ؟" .. يتجاهل السؤال .. فقط يريد ان يخرج من هذا المكان بأي ثمن .. يفر من واقع قاسي وامة ممزقة .. وكأن الامر يحتاج الي هذه الاغنية كي يزداد سوء !.. يفر من تلك الموجات الراديوية اللعينة التي تفعم الهواء من حوله في صمت فيسمعها تتردد في عقله وكأن مخه تحول لجهاز استقبال من نوع جيد فجأة !..

خرج من المبني كله لا يعرف الي اين يذهب .. فقط كان يريد ان يبتعد قليلا حتي تهداء اعصابه .. جلس علي المقهي القريب .. طلب فنجان من القهوة .. صبي القهوة اللعين اشعل الراديو فأنبعث صوت عبد الحليم مرة اخري يواصل الاغنية :

- " والحصار الاقتصادي برضو ما زلش بلادي .. جاب سلاحه وطياراته .. غواصاته ودباباته .. " ..

يهتف في غضب وصرامة :
- " اسكت هذا الملعون " ..

انتفض الولد المسكين .. فهو لا يدري لما كل هذا الانفعال .. واغلق الراديو .. واتجه ليشغل التلفزيون ..

يبدو ان هذه الاغنية اللعينة تصر علي ملاحقته اينما ذهب ..يرتشف القهوة وهو ينظر بعين لا تري الي المطربة التي لا تكف عن التلوي كالثعبان في الفيديو كليب .. يقلب شفتيه في امتعاض .. شريط الاخبار يتواصل اسفل الشاشة .. " منع قافلة المعونات التي ارسلتها جمعية نشطاء السلام من المرور لمساعدة غزة بعد ان ضيق الجيش الاسرائيلي حصاره عليها " .. " تواصل الحفريات الاسرائيلية تحت المسجد الاقصي " .. " مصدر اميريكي يصرح بموعد بناء الهيكل بعد افتتاح كنيس الخراب اليهودي " .. "مخاوف من هدم الاقصي لبناء الهيكل كما تأمر العقيدة اليهودية " ..

افرغ فنجان القهوة في فمه مرة واحدة وترك المكان كله وخرج .. افكار كثيرة تعتمل في عقله .. مرارة لا حد لها في صدره .. تري ماذا يحدث لو تم هدم الاقصي بالفعل .. هل تكون هي الشرارة التي تشعل الثورة وتوحد هذه الامة امام عدو واحد !.. ام ان الامر سينتهي بعد عدة اسابيع كما يحدث دوما وينسي الجميع كل شئ !.. يري بعين الخيال خبر هدم الاقصي يذاع في نباء عاجل علي كل القنوات الفضائية .. ثم عاصفة من المظاهرات تجتاح كل البلاد العربية وبعض البلاد الاجنبية .. يتم السيطرة عليها من قبل قوات الأمن كالعادة .. احتجاج متواصل واعتراض علي قمع الانظمة .. تحريض علي الثورة واشعال للرأي العام في كل مكان .. الف برنامج في الف محطة اخبارية يناقش الوضع وما يمكن عمله .. قمة عربية طارئه لا تخرج بقرار واحد هام !.. ثم لا شئ !.. يمر الوقت ويهداء الجميع وينسي الناس ما حدث وينشغلون في حياتهم وكل يدور في دنياه ..

كان قد وصل الي نهر النيل الأن دون ان يشعر .. ينظر الي المياه التي تترقرق عاكسه اشعة الشمس الذهبية .. ورد النيل يملاء حواف المجري واكوام من القمامة تحت ذلك الكبري .. تبا للأهمال الذي لم يدع منظر واحد جميل لم يشوهه .. يجول في ذهنه خاطر غريب .. لماذا لا ينهي كل هذا الأن .. يقفز في النيل وينتهي كل شئ .. ينتهي عذابه وحياته ويرتاح .. انها فكرة مغرية حقا لكن تراها تجدي !.. هلي يرتاح حقا في العالم الاخر لو قفز الأن ؟..

سؤال ظل يدور في رأسه وهو في طريقة عائدا الي عمله مرة اخري ..

لكنه لم يجد له اجابة ابدا !..

تمت
محمد هشام ابوالعلا
9-4-2010

==================================================

{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً }

https://www.facebook.com/GalaxyGuard7

https://www.facebook.com/notes/10150208138600055

==================================================

{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً }

https://www.facebook.com/GalaxyGuard7

» وادي ما بين الجبال
» كفار بيقولوا احنا عايزين نشد يد عمر بن الخطاب
» اقف على سد امام البحر السد من خشب و و طوفان قادم وكان الطوفان اعلى منه