( إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ ) [ النساء : 97 ] ا.وقوله تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) [ محمد : 27 ] وقوله تعالى : (حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ) [ الأنعام : 61 ] إلى غير ذلك من الآيات .
ولا تعارض بين هذه الآيات ولا تناقض بحمد الله تعالى ، وذلك لأن الموكل بقبض الأرواح ملك واحد ، إلا أن له أعواناً يعملون بأمره ويعينونه على ذلك .
ومما يدل على وجود أعوان لملك الموت ما رواه الإمام أحمد في مسنده (18063) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَيَقُولُ : أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ..
فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ ، فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ .
فَيَصْعَدُونَ بِهَا ...) الخ ، والحديث صححه ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 214) ، والألباني في "أحكام الجنائز" صـ 159.
فهذا الحديث يدل على أن مع ملك الموت ملائكة آخرين يأخذون من يده الروح حين يأخذها من بدن الميت .
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري : " إن قال قائل : أو ليس الذي يقبض الأرواح ملك الموت ، فكيف قيل : (توفته رسلنا )، و"الرسل" جملة ، وهو واحد ؟
قيل : جائز أن يكون الله تعالى ذكره أعان ملك الموت بأعوان من عنده ، فيتولون ذلك بأمر ملك الموت .
فيكون" التوفي" مضافًا إلى ملك الموت ، كما يضاف قتلُ من قتله أعوانُ السلطان ، وجلدُ من جلدوه بأمر السلطان ، إلى السلطان، وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه ، ولا وليه بيده ". انتهى من تفسير الطبري (11/410) بتصرف يسير .
وقال الإمام أبو المظفر السمعاني :
" فإن قيل : قد قال في آية أخرى : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ) السجدة /11، وقال هاهنا : ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) الأنعام /61 ، فكيف وجه الجمع ؟
قيل : قال إبراهيم النخعي : لملك الموت أعوان من الملائكة ، يتوفَّوْن عن أمره ؛ فهو معنى قوله : ( توفته رسلنا ) ، ويكون ملك الموت هو المتوفى في الحقيقة ؛ لأنهم يصدرون عن أمره ، ولذلك نسب الفعل إليه في تلك الآية . وقيل : معناه : ذكر الواحد بلفظ الجمع ، والمراد به : ملك الموت . "
وقال القرطبي:
" والتوفي تارة يُضاف إلى ملك الموت ، كما قال : ( قل يتوفاكم ملك الموت ) .
وتارة إلى الملائكة لأنهم يتولون ذلك ، كما في قوله : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ) .
وتارة إلى الله وهو المتوفي على الحقيقة ، كما قال : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) " انتهى من " تفسير القرطبي" (7/7) .
قال الشيخ ابن عثيمين : " إن ملك الموت له أعوان يعينونه على إخراج الروح من الجسد حتى يوصلوها إلى الحلقوم ، فإذا أوصلوها إلى الحلقوم قبضها ملك الموت .
وقد أضاف الله تعالى الوفاة إلى نفسه ، وإلى رسله أي : الملائكة ، وإلى ملك واحد ... ولا معارضة بين هذه الآيات ، فأضافه الله إلى نفسه ؛ لأنه واقع بأمره ، وأضافه إلى الملائكة ؛ لأنهم أعوان لملك الموت ، وأضافه إلى ملك الموت ؛ لأنه هو الذي تولى قبضها من البدن ". انتهى " الشرح الممتع" (5/ 114)
والله اعلم